صحافيو غزة: القصف الإسرائيلي يستهدفنا ولا نشعر بالأمان – (خبر عاجل) تنقل روايات خاصة عن واقع القطاع المر
في قطاع غزة المحاصر، تتفاقم معاناة الصحفيين الذين يواجهون الموت جوعًا ورصاصًا، بينما يحاولون نقل الحقيقة للعالم. قصة مأساوية ترويها دموع الأرامل وصرخات الجوعى، وتكشف عن واقع مرير يعيشه من تبقى من الصحفيين وعائلاتهم.
بكلمات يعتصرها الألم، حاولت زوجة صحفي قُتل برصاص إسرائيلي في قطاع غزة أن تعبر في تدوينة مؤثرة عن حجم المعاناة التي تواجهها، والتي وصلت إلى حد العجز عن توفير أبسط أنواع الطعام لأطفالها، بعد فقدان معيلهم أثناء تغطيته للأحداث الميدانية في بداية الحرب في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
لم يكن هذا الصحفي الضحية الوحيدة، بل كان معه زملاء آخرون يعملون بنظام العمل الحر لصالح مؤسسات إعلامية محلية ودولية.
وبمجرد أن نشرت الزوجة المفجوعة كلماتها المؤثرة، أطلق زملاء المهنة حملة تبرعات جمعت آلاف الشواقل، لكن هذه الحملة كشفت عن العديد من الحالات المماثلة.
فالكثير من عائلات الصحفيين يفتقدون إلى أي معاش يعينهم على مواجهة الظروف المعيشية القاسية التي يعاني منها سكان القطاع، خاصةً أولئك الذين يعملون بعقود يومية لا تُلزم مؤسساتهم بأي حقوق في حال مقتلهم أو وفاتهم أو تعرضهم لأي ظرف طارئ آخر.
ومنذ اليوم الأول للحرب، دخل الصحفيون في دائرة الاستهداف التي تسحق آلاف الغزيين… قتلاً وتشريداً وتجويعاً.
“نعيش مع الموت لحظة بلحظة”
إبراهيم قنن، أحد أبرز وجوه الصحافة في غزة منذ عقود، يصف الحرب الحالية بأنها الأصعب التي مرت عليه منذ 30 عاماً؛ ويتحدث عن المعاناة الشديدة التي يتكبدها الصحفيون، سواء بسبب استهدافهم المباشر، أو استهداف مقرات عملهم، أو سيارات البث، أو المركبات والمكاتب الخاصة بهم، أو حتى خيام النزوح، أو المنازل والشقق السكنية التي يقيمون بها، فضلاً عن المخاطر أثناء تغطيتهم للأحداث.
وأضاف في حديث لـ”خبر عاجل” أن الصحفي في غزة يواجه قائمة طويلة من الصعوبات البالغة، مع عدم توفر الكهرباء والماء، وانقطاع الإنترنت.
وفي الأشهر الأربعة الأخيرة، تضاعفت الأزمات على الصحفيين، إذ لا يستطيعون توفير الغذاء لأنفسهم وعائلاتهم وزملائهم، وتمضي عليهم ساعات طويلة دون أن يتناولوا شيئاً، ولا يجدون حتى القليل من الطعام، مع اختفاء الخبز والبيض والدواجن، وأي طعام يمنح الإنسان بعض الطاقة، وإذا توفر يكون السعر باهظاً.
الأصعب من هذا كله، كما يقول قنن، هو أن الصحفي في غزة لا يشعر بأي نوع من الأمان، فتكاد لا تمر بضعة أيام إلا ويقتل صحفي هنا، أو يصاب آخر هناك. ويضيف: “نشعر كأننا مستهدفون على مدار الساعة، ونتحرك بخوف شديد، ونعيش حالة من الرعب والقلق. فرغم أننا نرفع شارات الصحافة، ونرتدي الخوذة والسترة المخصصتين لعملنا، فإننا لا نشعر بالأمان”.
ووفقاً لآخر الإحصائيات الصادرة عن نقابة الصحفيين الفلسطينيين، قُتل 232 صحافياً في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
وكان قنن أول صحفي يصاب في غزة بعد ساعات من بدء الهجوم الإسرائيلي على القطاع صبيحة هجوم “حماس” في ذلك اليوم. كان يستعد وقتها لتغطية مباشرة على الهواء عقب استهداف مركبة إسعاف في ساحة مجمع ناصر الطبي في خان يونس، لكنه أصيب وعدد من زملائه الذين كانوا على بعد بضعة أمتار من المركبة.
وعن تلك اللحظة يقول: “لثوانٍ معدودة، شعرت بأن الموت يقترب مني. وبعدما استعدت وعيي، تفقدت أطرافي ووجدت أنني مصاب ببعض الشظايا في أماكن مختلفة إحداها قرب القلب. ورغم ذلك وبعد 4 ساعات فقط، ظهرت في تغطية مباشرة على الهواء وأنا مصاب”.
ويضيف: “اخترت مواصلة التغطية ونقل معاناة شعبنا، ولم نغادر ميدان التغطية، لأن الصحافة رسالة إنسانية وسامية للشعوب، ونؤمن بهذه الرسالة”، مشيراً إلى أنه تعرض لاحقاً لعدة عمليات قصف برفقة زملاء، وكادوا يفقدون حياتهم فيها.
ويواصل حديثه قائلاً: “هذا جزء من معاناتنا، الرعب والخوف يلاحقنا، ولذلك نحن نعمل تحت ضغط شديد. نحن نعيش مع الموت لحظة بلحظة، ونشاهده يومياً، وكأننا رفاق درب، وهذا يزيد من الضغط علينا… ولا يتوفر لدينا الحد الأدنى من الإمكانيات”.
ومع نزوح الصحافيين المتكرر، مثلهم مثل باقي مواطني غزة، يؤكد قنن أنه لا توجد منطقة آمنة في القطاع.
يقول: “رغم كل هذا الألم، نحن مضطرون لمواصلة العمل، ولا نستطيع التراجع، أو أن نخذل المواطنين، نحن ننقل معاناتهم التي تعطينا حافزاً لاستمرار التغطية. مرهقون وجوعى وعطشى، ونواجه ونكابد الأمرّين، إلا أننا ننوب عن كل مواطن وعن كل صحافي في العالم حُرم من دخول القطاع، لننقل حقيقة معاناة شعبنا”.
الموت جوعاً
الصحافية مادلين شقليه، التي كانت قبل الحرب تعمل في إذاعة محلية، وتقدم برنامجاً صباحياً شهيراً يستمع إليه الآلاف، وباتت حالياً تعمل في إحدى قنوات التلفزة العربية مراسلة لتغطية الأحداث بالقطاع، ذاقت هي الأخرى مرارة النزوح المتكرر، وفقدان العديد من الأهل.
تقول لـ”خبر عاجل”: “حياتنا تغيرت وتبدلت، وفقدنا أعز الناس علينا”، مشيرةً إلى أن شقيقتها وأطفالها قتلوا في قصف إسرائيلي، ولم تستطع حتى توديعهم، إذ كانوا في شمال القطاع بينما هي نازحة في جنوبه.
لم تكن شقليه تتوقع أن تطول الحرب كل هذه المدة، وتقول إن الصحفيين عانوا، مثل الجميع في غزة، من النزوح المتكرر بعد ضياع البيوت، وتدمير المنازل. وتشير إلى أن منزلها دمر بالكامل، لكنها رغم كل ذلك لم تتوقف عن التغطية.
وتضيف: “كل شيء مؤلم ويوجعنا، لكن رسالتنا لا بد أن تصل، وهذا واجب”.
تتحدث عن المجاعة فتقول إنها عانت فيها كثيراً، لكن ألمها الأكبر كان للوضع المأساوي الذي يعيشه المسنون والأطفال. وكان الوجع يعتصر قلبها وهي ترى حال زملائها الصحفيين الذين كانوا ينهارون ويقعون نتيجة التغطية المتواصلة في ظل التجويع والاستهداف المتكرر.
وأعربت مادلين شقليه عن أملها في أن يسدل الستار على الحرب، وأن تنتهي المجاعة التي أكدت أن إسرائيل تستخدمها سلاحاً ضد الفلسطينيين، وقالت: “لما حدا بيقول ما أكلناش… صدقوه، هذا حقيقي. ما يحصل في غزة أكبر من إن أي حدا يتحمله”؛ مشيرةً إلى أن اهتمامات السكان باتت تتركز على توفير الطحين والأرز دون خوف من الموت الذي بات أهل غزة يتمنون لقاءه وهم شبعى على الموت جياعاً.
وخلال الشهر الماضي، سجل دخول أربعة صحافيين إلى المستشفيات لتلقي العلاج، خاصةً في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، بعد انهيارهم في أعقاب شعورهم بالإعياء نتيجة عدم تناولهم أي طعام لعدة أيام سوى القليل من الأرز الذي استطاعوا توفيره بصعوبة بالغة لهم ولعوائلهم.
هزال وضعف
من كان يتابع الصحفيين والمراسلين والمصورين في غزة قبل الحرب يستطيع أن يرى بسهولة ما طرأ عليهم من هزال ووهن، ونقص شديد في الوزن بعد شهور طوال من الحياة القاسية.
ويقول المراسل الصحافي عبد الله مقداد إن الصحفيين، مثلهم مثل أي مواطن بغزة، يعانون الهزال والصداع، وتراجعاً في الوزن والصحة نتيجة المجاعة والظروف الصعبة، وهو ما يجعل بعضهم غير قادر على البقاء طويلاً في تغطية مستمرة على الهواء.
نزح مقداد مرات عديدة، والتقى بعائلته أول مرة بعد قرابة شهرين من اندلاع الحرب، نظراً لأنه كان يقوم بتغطية مباشرة.
وبسبب الحرب وقسوة الحياة، اتخذ قراراً صعباً بسفر عائلته، مفضلاً قسوة البُعد على مخاطر القُرب. وبنبرة غلبها الحزن والقهر قال: “كثير باشتاق لعائلتي”.
ووصف الحرب الحالية بأنها “من أقسى ما مر على الصحفيين في القطاع”، خاصةً أن عوائلهم كانت جزءاً من الاستهداف المباشر من قِبل قوات الجيش الإسرائيلي التي لا تفرق بين مدني وعسكري. وأكد هو الآخر أن الصحفيين، مثل باقي المواطنين، يعجزون عن توفير لقمة العيش والاحتياجات الأساسية.
الصحافي عامر السلطان تحدث أيضاً عما تكبده من ظروف قاسية أثناء نزوحه من شمال القطاع إلى جنوبه، قبل أن تقتل طائرة إسرائيلية عدداً من أفراد عائلته، من بينهم أشقاء لم يستطع توديعهم.
يقول: “في قلبي حرقة كبيرة”.
ويؤكد السلطان أنه رغم الظروف التي يمر بها الصحافي من استهداف ومجاعة وغيرهما، فإنه يصر على تصوير القصص الإنسانية، ونقل معاناة السكان إلى العالم، قائلاً: “نحن مثل أي مواطن، نتناول ربع وجبة في اليوم مما نستطيع أن نتحصل عليه”.
وتابع: “أحزن على حال الناس الجعانة، ولما أصوَّر باتوجّع لألمهم؛ لكن أنا بعد ما أخلص أكون مثلهم… ما بالاقي الأكل”.