Published On: Thu, Jul 31st, 2025

خبر عاجل: سوسن الأبطح تكتب عن الأغنية في لبنان ودورها في الذاكرة والوحدة

لماذا يغرق لبنان في الحزن العميق لرحيل فنانين كبار؟ قد يجد البعض صعوبة في فهم هذه العلاقة الوثيقة بين اللبنانيين وفنهم، فهم ليسوا مجرد فنانين، بل شركاء في صياغة هوية الوطن الذي يتوقون إليه، وطن التعايش والسلام.

هؤلاء الفنانون، بأغانيهم، هم المؤرخون والموثقون والناقدون، يرسمون صورة لبنان “الرسالة”، كما وصفه ميشال شيحا، “نموذج الدولة التعددية” المتجاوزة للطائفية، “البلد الجسر” بين الحضارات.

NewsImage

كما قاومت جنوب أفريقيا الفصل العنصري بالأغنية، وقاد فنانون في تشيلي حركة غنائية واكبت النضال الشعبي، كانت أم كلثوم في مصر صوت عبد الناصر، وانضم عبد الحليم حافظ إلى داعميه. وفي أميركا، اشتهر بوب ديلان بأغانيه الاحتجاجية ضد حرب فيتنام، وانتقد روجر ووترز السياسات الأميركية. وفي العراق، انقسمت الأغنية السياسية بين موالاة ومعارضة.

لكن العلاقة بين السياسة والأغنية في لبنان تبدو فريدة، فهي سجل أمين للأحداث، يمكن من خلاله تأريخ عمر هذا البلد الصغير، من خلال الأغاني التي جاءت كرد فعل واحتجاج وتصوير لقرن من المحن. برنامج “صاروا مية” التلفزيوني استعرض ببراعة مفاصل تاريخ لبنان من خلال الأغاني والأحداث المصاحبة لها.

عمر الزعني، الفنان الكبير الذي لم يذكر اسمه في النص الأصلي، كان مصوراً بارعاً للحياة الاجتماعية، وناقداً لاذعاً، أغنياته تشبه الأفلام التسجيلية، تجمع بين الشخصيات المتنوعة والسخرية والمرارة، عايش العثمانية واستمر في إطلاق مونولوجاته بعد الاستقلال، ممزوجاً بين الطرب والتهكم.

مع الأخوين رحباني وفيروز، تبلورت التجربة ونضجت، وتحولت إلى مؤسسة أنتجت الأغنيات والأفلام والمسرحيات. حتى صباح، التي قد يُنظر إلى إرثها باستخفاف، قدمت في أغنياتها صورة لبنان المبهج. كل فنان تفرد بأسلوبه، لكنهم معاً غنوا حكاية الوطن المثالي.

خلال الحرب الأهلية، انقسم اللبنانيون، لكن الغريب أن الأناشيد الحزبية بدت وكأنها تشبه الجميع ولا تفرق بين فئة وأخرى.

هناك حرص دفين لدى الفنانين على الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور، حتى المختلفين معهم. هذا ما جعل كلمات الأغاني أقرب إلى التورية والترميز، مع غياب أي قمع حقيقي. هي الرقابة الذاتية والرغبة في أن يكون أي عمل له وجه وطني يتماهى معه أي مواطن.

بعد انتهاء الحرب الأهلية، خفتت الرومانسية، وعلت نبرة الحديث عن الفقر وهموم الناس والغضب والفساد.

عادة ما ترتبط الأغنية المرادفة للحدث السياسي بلحظة معينة، لكن الأغنية اللبنانية تحاول أن تتكلم بصوت الجموع، أن تترجم تمنياتهم، تطلق صوت ضمائرهم، تصرخ بحناجرهم، تحاول أن تسد الفراغ المؤسساتي، تكون بديلاً عن الحكم المقتدر الغائب، بل تكشف عورة الأحزاب وتخلف الفكر العام، وتعوض الخسائر برفع المعنويات وتمجيد الوحدة المفقودة والاستقلال المنقوص.

كان وديع الصافي يجوب بلاد الاغتراب للقاء اللبنانيين ويغني أغنيته الشهيرة، فتنسكب الدموع ويشتعل الحلم بالعودة إلى الديار.

الأغنية في لبنان ليست مجرد أغنية، بل هي مرجع وذكريات وحنين، هي المتنفس في الحروب والخلاص الوحدوي عند الفرقة والسلام الداخلي في لحظات العنف والكلمة الحكيمة حين يستشري الجهل.

قد يقال إن دور المثقف انتهى وجاء زمن المؤثرين، لكن لحسن حظ اللبنانيين، لا تزال لديهم مراجع فنية، هي تتضاءل وترحل ولا تعوض، لكنهم يتمسكون بالفن والأغنية والشعر والموسيقى واللوحة، لبناء وطن جامع وجميل، يعيش فيه اللبنانيون ويحلمون ويستريحون، قبل أن يستفيقوا على واقعهم.

نشر هذا المقال أولاً على موقع خبر عاجل.